انتهت الحكومة المصرية من إعداد مشروع متكامل لحسم ملف أموال التأمينات الاجتماعية استجابة لضغوط شعبية وسياسية متزايدة بهدف توفير الاستقلال لمدخرات ملايين المصريين بعيداً عن الموازنة العامة للدولة. ويسعى المشروع الحكومي إلى فصل أموال التأمينات عن الموازنة العامة وإعادة ما تم سحبه من هذه الأموال البالغة 466 مليار جنيه إلى الصندوقين الرئيسيين للتأمينات الاجتماعية وهما صندوق تأمين العاملين بالحكومة وقطاع الأعمال العام وصندوق تأمين العاملين بالقطاع الخاص.
والمقرر أن تصدر مجموعة من القرارات التنظيمية الشهر المقبل لمعالجة آثار القرارات التي اتخذها الدكتور يوسف بطرس غالي وزير المالية الأسبق قبل نحو 5 سنوات ضم من خلالها أموال التأمينات إلى الموازنة العامة مقابل التزام الحكومة بسداد معاشات التقاعد لنحو 8 ملايين مصري. ولجأ غالي إلى هذه الحيلة القانونية للتهرب من إعادة الأموال التي تم استخدامها لعلاج عجز الموازنة على مدى سنوات طويلة واستثمار جزء آخر منها في مشروعات عامة خاصة مشروعات البنية التحتية عبر إقراض هذه الأموال إلى بنك الاستثمار القومي ثم إعادة اقتراض هذه الأموال من بنك الاستثمار القومي لحساب الجهات الحكومية ـ وزارات وشركات وهيئات عامة ـ المنفذة لهذه المشروعات وترتب على هذه الإجراءات ذوبان مدخرات المواطنين الإلزامية في بنود الموازنة العامة وهو ما اعتبره أصحاب المعاشات مخالفة صريحة للقانون الذي يحظر استيلاء الحكومة على هذه الأموال تحت أي مسمى باعتبارها أموالا تخص المواطنين ويجرى استقطاعها من رواتبهم الشهرية على مدى سنوات عملهم واستثمارها لحسابهم ومن ثم فإن القانون يعتبرها بمثابة أموال خاصة تتساوى من الناحية القانونية مع ودائع المصريين في البنوك.
وعلى الرغم من استناد بطرس غالي إلى مجموعة من المبررات المالية والفنية لقرار ضم أموال التأمينات للموازنة العامة وفي مقدمة هذه المبررات عجز الاشتراكات الجديدة عن الوفاء بالزيادات المتتالية لقيمة معاشات التقاعد وأن الدولة سوف تلتزم بسداد هذا الفرق لاعتبارات اجتماعية، إلا أن هذه المبررات لم تصمد أمام أراء فنية معارضة اعتبرت ما جرى استيلاء على أموال المواطنين مما عزز ضغوط الرفض الشعبي لهذا الإجراء.
وتتمثل أبرز ملامح الخطة الجديدة في تحديد المديونية المستحقة لصندوقي التأمين على العاملين بالحكومة والقطاع الخاص في 31 ديسمبر 2011 على أن تتم جدولة سداد هذه الأموال عبر عمليات طرح لأذون وسندات خزانة على مدى ثلاث سنوات وتلتزم وزارة المالية بسداد قيمة المعاشات الشهرية للمتقاعدين والتي يبلغ إجماليها 52 مليار جنيه سنوياً حتى يتم سد الفجوة بين الإيرادات والمصروفات والتي نتجت عن عملية الضم السابقة لأموال التأمينات وحرمان الصندوقين من عوائد استثمار أموالهما على مدى أكثر من 5 سنوات مما أهدر أكثر من 250 مليار جنيه.
ويتمثل المحور الثاني في الخطة الحكومية في التوقف الفوري ـ بعد اعتماد المشروع ـ عن تحصيل الاشتراكات الجديدة باعتبارها موارد للخزانة العامة على أن يجري تكوين مخصصات لهذه الاشتراكات تسهم في تحسين المزايا التي يتم تقديمها لأصحاب المعاشات أو في دعم المراكز المالية المستقبلية للصندوق.
ورغم أن التزام الحكومة المصرية بسداد المبالغ المتأخرة للتأمينات يزيد الأعباء المالية على الحكومة بنحو 80 مليار جنيه سنوياً، فإنها تدرس نقل بعض أصول الممتلكات العامة لتصبح مملوكة لهيئة التأمينات الاجتماعية مقابل هذه الأموال حيث تضم قائمة المشروعات والممتلكات العامة المقترح نقلها الشركة المصرية للاتصالات وأجزاء من رأسمال بعض شركات توزيع الكهرباء وكذلك مساحات كبيرة من الأراضي في المدن الجديدة وحصصا من رأسمال بعض البنوك والمشروعات الحكومية مما يوفر مزيداً من الدخل الاستثماري لصندوقي التأمين وإعادة تكوين محفظة استثمارات تتسم بالجودة النسبية نظرا لجودة الأصول المنقول ملكيتها وفي نفس الوقت تخفيف الأعباء المالية عن الحكومة والعمل على سرعة تسوية الملف. ورغم الزيادات التي أقرتها الحكومة لقيمة المعاشات اعتباراً من يناير الماضي بنسبة 10%، فإن الإسراع بتنفيذ مشروع نقل الأصول وإعادة رصيد الأموال يسهم في إصلاح الخلل الهيكلي في قيمة المعاشات لا سيما وأن أعلى سقف للمعاشات يدور حول 900 جنيه مقابل 36 سنة خدمة الأمر الذي يعتبره كثيرون نوع من إهدار مستحقات أصحاب المعاشات.
وحسب هذه الأرقام الرسمية للعام 2011 فإن إجمالي الاشتراكات يدور حول 30,8 مليار جنيه بينما تبلغ عوائد الاستثمار 25,4 مليار جنيه ليبلغ إجمالي الإيرادات 56,2 مليار جنيه وتدور المزايا المدفوعة حول 52,6 مليار جنيه ليحقق النظام فائضاً في حدود 3,6 مليار جنيه بينما يبلغ إجمالي احتياطات الصندوقين نحو 466 ملياراً و611 مليون جنيه.
أما في العام 2021 وحسب هذه الأرقام أيضاً فإن هناك عجزاً بين الموارد والنفقات سوف يبلغ 94 مليار جنيه حيث يبلغ إجمالي الاشتراكات في ذلك العام 39,6 مليار جنيه بينما لن تزيد عوائد الاستثمار على 21,9 مليار ليبلغ إجمالي الإيرادات 61,8 مليار جنيه بينما يبلغ إجمالي المزايا المدفوعة لأصحاب المعاشات نحو 156 مليار جنيه ليصل العجز الى 94,1 مليار جنيه ومن ثم ينخفض احتياطي الصندوقين الى 180.6 مليار جنيه.
وتستند هذه الأرقام إلى التحول الديموجرافي الكبير الذي سوف تشهده مصر في السنوات القادمة وكذلك انخفاض قيمة الاشتراكات نتيجة تناقص أعداد الداخلين إلى مظلة التأمينات بفعل اتساع نطاق البطالة بينما سوف ترتفع قيمة المعاشات المدفوعة نتيجة بلوغ عدد كبير من المشتركين سن التقاعد واستحقاقهم الحصول على معاش. ويرى خبراء ماليون أن إصلاح خلل منظومة التأمين الاجتماعي أصبح أمرا ضروريا في ظل المخاوف المتصاعدة من عدم قدرة الحكومة على الوفاء بهذه الالتزامات على خلفية العجز المتنامي في الموازنة العامة للدولة ومن ثم فإن التصدي لهذا الملف في هذا التوقيت أمر جيد حتى لا تتحمل الموازنة العامة مزيداً من الأعباء المستقبلية التي لن تستطيع الوفاء بها.
وقال الخبراء إن إعادة فصل أموال التأمينات عن الموازنة العامة هو إصلاح لخطأ تم ارتكابه بواسطة وزير المالية الأسبق وتسبب في استنزاف قدرة النظام التأميني وأدى إلى حرمان أصحاب المعاشات من الحصول على زيادات مناسبة وواقعية على معاشاتهم تتوازى مع معدلات التضخم وارتفاع الأسعار خلال السنوات الأخيرة مما تسبب في مشكلات اجتماعية. ويقول رائد علام، الخبير التمويلي، إن نظام التأمينات الاجتماعية في مصر تم بناؤه منذ عشرات السنين على قاعدة أن الموارد أكبر من الالتزامات وبالتالي تراكمت احتياطات ضخمة أغرت الحكومة بالاستيلاء عليها لتمويل مشروعاتها مما عرض هذه الأموال للخطر.
ويضيف أن عودة هذه الأموال كفيلة بعلاج العجز لأننا نتحدث عن مبلغ يدور حول نصف تريليون جنيه، إذا جرى استثماره على نحو رشيد وبكفاءة عالية سوف يوفر المزيد من الموارد ليس لعلاج العجز فقط ولكن لدعم الاحتياطي المالي للنظام التأميني لمواجهة أي تطورات مستقبلية تتعلق باضطرار هذا النظام لمضاعفة قيمة معاشات التقاعد تحت وطأة الضغوط الشعبية.
أما الدكتورة أمنية حلمي، أستاذ الاقتصاد في جامعة القاهرة، فتؤكد أن خطة الحكومة وإن جاءت متأخرة بعد تدهور أوضاع النظام التأميني فإنها ضرورية لمنع انهيار هذا النظام خلال السنوات المقبلة وبالتالي فإن الخطة نوع من تدارك الأزمة قبل استفحالها لأن النظام وان كان يحقق بعض الفائض حالياً فإن هذا الفائض سرعان ما سيتحول الى عجز في الفترة القادمة يزداد مع الوقت وسوف تكون هناك صعوبة في الوفاء بهذه الالتزامات ولن تتم زيادة قيمة المعاشات بما يعادل مستوى التضخم. وقالت إن الخطة تخفف الأعباء عن الموازنة العامة للدولة عبر نقل بعض الأصول الاقتصادية لهيئة التأمينات وبالتالي لن تضطر الحكومة لسداد كافة الأموال التي سبق ضمها للموازنة العامة في صورة سيولة نقدية.